سورة عبس - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (عبس)


        


{قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)}
قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ}؟ قُتِلَ أي لعن.
وقيل: عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن قُتِلَ الْإِنْسانُ فإنما عني به الكافر.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد آمن، فلما نزلت {والنجم} ارتد، وقال: أمنت بالقرآن كله إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة» فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرفقة، وجعلوا المتاع حوله، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئا قط إلا كان.
وروى أبو صالح عن ابن عباس ما أَكْفَرَهُ: أي شيء أكفره؟ وقيل: ما تعجب، وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا: قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا.
وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا، قال ابن جريج: أي ما أشد كفره! وقيل: ما استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر، فهو استفهام توبيخ. وما تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أي، فتكون استفهاما. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر؟ أي أعجبوا لخلقه. مِنْ نُطْفَةٍ أي من ماء يسير مهين جماد خَلَقَهُ فلم يغلط في نفسه؟! قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. فَقَدَّرَهُ في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس: أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسنا ودميما، وقصيرا وطويلا، وشقيا وسعيدا.
وقيل: فَقَدَّرَهُ أي فسواه كما قال: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. وقال: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ.
وقيل: فَقَدَّرَهُ أطوارا أي من حال إلى حال، نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل: يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد: يسره لطريق الخير والشر، أي بين له ذلك. دليله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال: سبيل الشقاء والسعادة. ابن زيد: سبيل الإسلام.
وقال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه، دليله قوله عليه السلام: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له». {ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي، قاله الفراء.
وقال أبو عبيدة: فَأَقْبَرَهُ: جعل له قبرا، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة: ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبد الرحمن، قالت بنو تميم ودخلوا عليه: أقبرنا صالحا، فقال: دونكموه. وقال: فَأَقْبَرَهُ ولم يقل قبره، لان القابر هو الدافن بيده، قال الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى نحرها *** عاش ولم ينقل إلى قابر
يقال: قبرت الميت: إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيره بحيث يقبر، وجعل له قبرا، تقول العرب: بترت ذنب البعير، وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله، وطردت فلانا، والله أطرده، أي صيره طريدا. {ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ} أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة {أنشره} بالألف.
وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة شاء نشره بغير ألف، لغتان فصيحتان بمعنى، يقال: أنشر الله الميت ونشره، قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجبا للميت الناشر
قوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ} قال مجاهد وقتادة: لَمَّا يَقْضِ: لا يقضى أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول: لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل: كَلَّا ردع وزجر، أي ليس الامر: كما يقول الكافر، فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [فصلت: 50] ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال: كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي.
وقال الحسن: أي حقا لم يقض: أي لم يعمل بما أمر به. ولَمَّا في قوله: لَمَّا عماد للكلام، كقول تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ} [المؤمنون: 40].
وقال الامام ابن فورك: أي: كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الايمان، بل أمره بما لم يقض له. ابن الأنباري: الوقف على كَلَّا قبيح، والوقف على أَمَرَهُ وأَنْشَرَهُ جيد، ف- كَلَّا على هذا بمعنى حقا.


{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)}
قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ} لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان ذكر ما يسر من رزقه، أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر، أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد.
وروى عن الحسن ومجاهد قالا: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي إلى مدخله ومخرجه.
وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ضحاك ما طعامك قلت: يا رسول الله! اللحم واللبن، قال: ثم يصير إلى ماذا؟ قلت إلى ما قد علمته، قال: فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا».
وقال أبي بن كعب: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير».
وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول انظر ما بخلت به إلى ما صار؟
قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا} قراءة العامة {إناء} بالكسر، على الاستئناف، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب {أَنَّا} بفتح الهمزة، ف- أَنَّا في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه، كأنه قال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إلى أَنَّا صَبَبْنَا فلا يحسن الوقف على طَعامِهِ من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت أَنَّا بإضمار هو أنا صببنا، لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام.
وقيل: المعنى: لأنا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن علي {أني} ممال، بمعنى كيف؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على طَعامِهِ تام. ويقال: معنى {أنى} أين، إلا أن فيها كناية عن الوجوه، وتأويلها: من أي وجه صببنا الماء، قال الكميت:
أنى ومن أين آبك الطرب *** من حيث لا صبوة ولا ريب
صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا: يعني الغيث والأمطار. {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا}: أي بالنبات {فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا} أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يحصد ويدخر {وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو القت والعلف، عن الحسن: سمى بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب: واهل مكة يسمون القت القضب.
وقال ابن عباس: هو الرطب لأنه يقضب من النخل: ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا: أنه الفصفصة وهو القت الرطب.
وقال الخليل: القضب الفصفصة الرطبة.
وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قت. قال: والقضب: اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال: قضبا، يعني جميع ما يقضب، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها.
وفي الصحاح: والقضبة والقضب الرطبة، وهي الاسفست بالفارسية، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. وَزَيْتُوناً وهي شجرة الزيتون وَنَخْلًا يعني النخيل وَحَدائِقَ أي بساتين واحدها حديقة. قال الكلبي: وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. غُلْباً عظاما شجرها، يقال: شجرة غلباء، ويقال للأسد: الأغلب، لأنه مصمت العنق، لا يلتفت إلا جميعا، قال العجاج:
ما زلت يوم البين ألوي صلبي *** والرأس حتى صرت مثل الأغلب
ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب فاستعير، قال قال عمرو بن معدي كرب:
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم *** بزل كسين من الكحيل جلالا
وحديقة غلباء: ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب: بلغ والتف البعض بالبعض. قال ابن عباس: الغلب: جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد: الغلب: النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة: عظام الأوساط والجذوع. مجاهد: ملتفة. وَفاكِهَةً أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما وَأَبًّا هو ما تأكله البهائم من العشب، قال ابن عباس والحسن: الأب: كل ما أنبتت الأرض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحصيد، ومنه قول الشاعر في مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
له دعوة ميمونة ريحها الصبا *** بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل: إنما سمي أبا، لأنه يؤب أي يؤم وينتجع. والأب والام: أخوان، قال:
جذمنا قيس ونجد دارنا *** ولنا الأب به والمكرع
وقال الضحاك: والأب: كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين: هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال: الأب: ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام.
وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة: الأب: الثمار الرطبة.
وقال الضحاك: هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا، قال الشاعر:
فما لهم مرتع للسوا *** م والأب عندهم يقدر
الكلبي: هو كل نبات سوى الفاكهة.
وقيل: الفاكهة: رطب الثمار، والأب يابسها.
وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال: أي سماء تظلني وأى أرض تقلني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا بن أم عمر ألا تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع». وإنما أراد بقوله: «خلقتم من سبع» يعني {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] الآية، والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً} إلى قوله: {وَفاكِهَةً} ثم قال: {وَأَبًّا} وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. مَتاعاً لَكُمْ نصب على المصدر المؤكد، لان إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دثوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن امتنانا عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضا.


{فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}
قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ} لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الاسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للاحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الاسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والانس».
وقال الشاعر:
يصيخ للنبأة أسماعه *** إصاخة المنشد للمنشد
قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان {صخا}؟ أي تصمها بشدة وقعتها. واصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد.
وقيل: هي مأخوذة من صخة بالحجر: إذا صكة قال الراجز:
يا جارتي هل لك أن تجالدي *** جلادة كالصك بالجلامد
ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان:
أصم بك الناعي وإن كان اسمعا ***
وقال آخر:
أضمني سرهم أيام فرقتهم *** فهل سمعتم بسر يورث الصمما
لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة. قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} أي يهرب، أي تجئ الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه، أي من موالاة أخيه ومكالمته، لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه، كما قال بعده: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يشغله عن غيره.
وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات.
وقيل: لئلا يروا ما هو فيه من الشدة.
وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا، كما قال: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً} [الدخان: 41].
وقال عبد الله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى. {وَصاحِبَتِهِ} أي زوجته. {وَبَنِيهِ} أي أولاده. وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سوأة بنيه.
وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من، أبيه: إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح، وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قلت، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة، الامر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض». خرجه الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يحشرون حفاة عراة غرلا فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: يا فلانة {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}». قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة، أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد {يعنيه} بفتح الياء، وعين غير معجمة، أي يعنيه أمره.
وقال القتبي: يعنيه: يصرفه ويصده عن قرابته، ومنه يقال: أعن عني وجهك: أي أصرفه وأعن عن السفيه، قال خفاف:
سيعنيك حرب بني مالك *** عن الفحش والجهل في المحفل
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}: أي مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. ضاحِكَةٌ أي مسرورة فرحة. مُسْتَبْشِرَةٌ: أي بما آتاها الله من الكرامة.
وقال عطاء الخراساني: مُسْفِرَةٌ من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ابن عباس: من قيام الليل، لما روى في الحديث: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» يقال: أسفر الصبح إذا أضاء. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ} أي غبار ودخان تَرْهَقُها أي تغشاها قَتَرَةٌ أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا: ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب: الغبار، جمع القترة، عن أبي عبيد، وأنشد الفرزدق:
متوج برداء الملك يتبعه *** موج ترى فوقه الرايات والقترا
وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار.
وقال زيد بن أسلم، القترة: ما ارتفعت إلى السماء، والغبرة: ما انحطت إلى الأرض، والغبار والغبرة: واحد. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ جمع كافر الْفَجَرَةُ جمع فاجر، وهو الكاذب المفترى على الله تعالى.
وقيل: الفاسق، يقال: فجر فجورا: أي فسق، وفجر: أي كذب. وأصله: الميل، والفاجر: المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده.

1 | 2